الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا **
اعلم أن للكاتب في استعمال الشعر في كتابته ثلاث حالات: الحالة الأولى الاستشهاد وهو أن يورد البيت من الشعر أو البيتين أو أكثر في خلال الكلام المنثور مطابقاً لمعنى ما تقدم من النثر ولا يشترط فيه أن ينبه عليه بقال ونحوه كما يشترط في الاستشهاد بآيات القرآن والأحاديث النبوية فإن الشعر يتميز بوزنه وصيغته عن غيره من أنواع الكلام فلا يحتاج إلى التنبيه عليه. وأكثر ما يكون ذلك في المكاتبات الإخوانيات: مثل ما كتب به القاضي الفاضل إلى بعض إخوانه يستوحش منه ويتشوق إليه: فيا رب إن البين أضحت صروفه علي وما لي من معين فكن معي على قرب عذالي وبعد أحبتي وأمواه أجفاني ونيران أضلعي! هذه تحية القلب المعذب وسريرة الصبر المذبذب وظلامة عزم السلو المكذب أصدرتها إلى المجلس وقد وقد في الحشا نارها الزفير أوارها والدموع شرارها والشوق أثارها وفي الفؤاد لو زارني منكم خيال هاجر لهدته في ظلمائه أنوارها أسفاً على أيام الاجتماع التي كانت مواسم السرور والأسرار ومباسم الثغور والأوطار وتذكراً لأوقات عذب مذاقها وامتد بالأنس رواقها وزوجت بكرها ودوعب ذكرها: والله ما نسيت نفسي حلاوتها! فكيف أذكر أني اليوم أذكرها ومذ فارقت الجناب لا زال جنا جنابه نضيراً وسنا سنائه مستطيراً وملكه في الخافقين خافق الأعلام وعزه على الجديدين جديد الأيام لم أقف منه على كتاب تخلف سطوره ما غسل الدمع من سواد ناظري ويقدم ببياض منظومه ومنثوره ما وزعه البين من سويداء خاطري: ولم يبق في الأحشاء إلا صبابة من الصبر تجري في الدموع البوادر وأسأله المناب بشريف الجناب وأداء فرض تقبيل الأرض حيث تلتقي وفود الدنيا والآخرة وتعمر البيوت العامرة المنن الغامرة وفضل الظل غير منسوخ بهجيره ويبشر المجد بشخص لا تسمح الدنيا بنظيره: تظاهر في الدنيا بأشرف ظاهر فلم نر أنقى منه غير ضميه! كفاني فخراً أن أسمى بعبده وحسبي هدياً أن أسير بنوره! وإنني في السؤال بكتبه أن يوصلها ليوصل بها لدي تهاني تملأ يدي ويودع بها عندي مسرة تقدح في الشكر زندي: عهدتك ذا عهد هو الورد نضرة وما هو مثل الورد في قصر العهد وأنا أترقب كتابته ارتقاب الهلال: لتفرط عين عن الكرى صائمة وترد نفس عن موارد الماء حائمة. بل ربما كان كل المكاتبة أو جلها شعراً وقد يكون صدر المكاتبة شعراً وذيلها نثراً وبالعكس. وقد يكون طرفاها نثراً وأوسطها شعراً وعكس ذلك بحسب ما يقتضيه الترتيب ويسوق إليه التركيب وربما اكتفي بالبيت الواحد من الشعر في الدلالة على المقصد وبلوغ الغرض في المكاتبة: كما كتب بعض ملوك الغرب إلى من كرر كتبه ورسله إليه بقول المتنبي: ولا كتب إلا المشرفية عنده ولا رسل إلا الخميس العرمرم إلى غير ذلك من المكاتبات المتضمنة للأشعار. أما مكاتبات الملوك الآن فقل أن تستعمل فيها الأشعار أو يستشهد فيها بالمنظوم والمنثور وقد تجيء التلقيحات بأبيات الشعر في غير المكاتبات من الرسائل الموضوعة لرياضة الذهن وتنقيح الفكر كالرسائل الموضوعة في صيد ملك أو فتح بلد أو نحو ذلك وقد أودعت المقامة التي أنشأتها في كتابة الإنشاء جملة من الأبيات الشعرية أوردتها مورد الاستشهاد على ما يقتضيه المقام ويسوق إليه سياق الكلام على ما سلف ذكره عند الكلام على فضل الكتابة فيما تقدم. وعند مطالعة كلامهم والوقوف على رسائلهم ترى من أصناف الاستشهادات ما يروقك نظره ويطربك سمعه. الحالة الثانية التضمين وهو أن يضمن البيت الكامل من الشعر أو نصف البيت لبعض القرينة. أما تضمين البيت الكامل من الشعر أو نصف البيت لبعض القرينة فمثل ما كتب به القاضي الفاضل: وصل من الحضرة: كتاب به ماء الحياة ونقعه ال حيا فكأني إذ ظفرت به الخضر فوقفت عنده منه على: عقود هي الدر الذي أنت بحره وذلك ما لا يدعي مثله البحر ورتعت منه في: رياض يد تجني وعين وخاطر تسابق فيها النور والزهر والثمر وكرعت منه في حياض: تسر مجانبها إذا ما جنى الظما وتروي مجاريها إذا بخل القطر كأني سار في سريرة ليلة فلما بدا كبرت إذ طلع الفجر ووافي على ما كنت أعهد: فخلت بأن العين من سحب كفه فمن ذا ومن ذا فيه ينتثر الدر واسترجع فائت الدماء من مورده: وما كان عندي بعد ذنب فراقه بأني أرى يوماً به بعد الدهر ونفس عن النفس بأبيض أثماده وعين العين بأسود إثمده: به لهما سبح طويل فهذه على خاطر برد وفي خطر بدر وجدد إليه أشواقاً جديدها: يمر به ثوب الجديدين دائماً فيبلى ولا يبلى وإن بلي الدهر وذكر أياماً لا يزال يستعيدها: وهيهات أن يأتي من الأمر فائت فدع عنك هذا الأمر قد قضي الأمر وأما تضمين نصف البيت فمثل قول القاضي الفاضل: وصل كتاب مولاي بعدما. أجاب المنادي للصلاة فأعتما فلما استقر لدي. تجلى الذي م جانب البدر أظلما وساءلته. فساءلت مصروفاً عن النطق أعجما ولم يرد جواباً. وماذا عليه لو أجاب المتيما ووردته قراءة. فعوجلت دون الحلم أن أتحلما وحفظته. كما يحفظ الحر الحديث المكتما وكررته. فمن حيث ما واجهته قد تبسما وقبلته. فقبلت ذراً في العقود منظما وقمت له. فكنت بمفروض المحبة قيما وأخلصت لكاتبه. وليس على حكم الحوادث محكما ولم أصدقه!. ولكنه قد خالط اللحم والدما وأرخت وصوله. فكان لأيدي الوسائم موسما وشفيت به غليل. فؤاد أمنيه وقد بلغ الظما وداويت عليل. حشاً ضر ما فيه من النار ضرما وأسلبت العبرة. كما أنشأ الأفق السحاب المديما وخطبت السلوة. فأسأل معدوماً وآمل معدما فأما الشكر فإنما. أفض به مسكاً عليه مختما وأقوم منه بفرض. أراني به دون البرية أقوما وأوفي واجب فرض. وكيف توفي الأرض فرضاً من السما وربما ركبت القرينة الكاملة على البيت أو نصف البيت كما كتب به القاضي الفاضل أيضاً: ورد كتاب الحضرة بعد أن عددت الليالي ليلة بعد ليلة لطلوع صديعه وقد عشت دهراً لا أعد اللياليا وبعد أن انتظرت القيظ والشتاء لفصل ربيعه. فما للنوى ترمي بليلى المراميا واستروحت إلى نسيم سحره. إذا الصيف ألقى في الديار المراسيا ومددت يدي لاقتطاف ثمره. فلله ما أحلى وأحمى المجانيا! ووقفت على شكواه من زمانه. فبت لشكواه من الدهر شاكيا ورتبة يرتقي صهوتها بحكم العدل. فرب مراق يعتددن مهاويا وإلى الله أرغب في إطلاع سعوده. زواهر في أفق العلاء زواهيا وفي إنهاض عثرات جدوده. فقد عثرت بعد النهوض العواليا وربما ركب نصف البيت على نصف القرينة كما ذكرت في المفاخرة بين السيف والقلم في الكلام على لسان السيف في مخاطبته للقلم وهو: وأنت وإن ذكرت في التنزيل وتمسكت من الامتنان بك في قوله فسل جنيناً وسل بدراً وسل أحدا فركبت نصف بيت البردة على نصف قرينة. وما ذكرته في الرسالة التي كتبتها للمقر الفتحي صاحب ديوان الغناء الشريف بالأبواب السلطانية بالديار المصرية. وهو: قد لبس شرفاً لا تطمع الأيام في خلعه ولا يتطلع الزمان إلى نزعه وانتهى إليه المجد فوقف وعرف لكرم مكانه فانحاز إليه وعطف وحلت الرياسة بغنائه فاستغنت به عن السوى وأناخت السيادة بفنائه وقد يضمن الكاتب بعض القرينة نصف بيت ثم يستطرد فيذكر أبياتاً كاملة الأجزاء على نمط أنصاف الأبيات التي يوردها كما فعل الشيخ ضياء الدين أحمد بن عمر بن يوسف القرطبي في رسالته للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد تغمدهما الله برحمته في قوله: وينهى ورود عذرائه التي. لها الشمس خدن والنجوم ولائد وحسنائه التي. لها الدر لفظ والدراري قلائد ومسرفته التي. له من براهين البيان شواهد وكريمته التي. لها الفضل ورد والمعالي موارد وآيتها الكبرى التي دل فضلها على أن من لم يشهد الفضل جاحد وأنك سيف سله الله للهدى وليس لسيف سله الله غامد وقد يخالف بين قوافي أنصاف الأبيات التي يمزجها ببعض القرائن كما يخالف بين فواصل القرائن: كما في قول البديع الهمذاني: أنا لقرب دار مولاي. كما طرب النشوان مالت به الخمر ومن الارتياح إلى لقائه. كما انتفض العصفور بلله القطر إلى غير ذلك من فنون الامتزاج التي يزاوج فيها بين المنثور والمنظوم وينتهي فيها الكاتب إلى ما يبلغ به القدر المحتوم. أما تضمين بعض أبيات العرب في بعض قصائد المحدثين كما فعل القاضي الأرجاني في قوله من قصيدة مدح بها بعض الوزراء: وأهد إلى الوزير المدجح يجمل لك المرباع منها والصفايا ورافق رفقة رحلوا إليه فآبوا بالنهاب وبالسبايا وقل للراحلين إلى ذراه ألستم خير من ركب المطايا ولا تسلك سوى طرقي فإني أنا ابن جلا وطلاع الثنايا فإن ذلك من وظيفة الشاعر لا الكاتب وإن كان الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي رحمه الله قد أشار في كتابه حسن التوسل إلى التمثيل بذلك لما نحن بصدده. الحالة الثالثة الحل وهو أن يعمد الكاتب إلى الأبيات من الشعر ذوات المعاني فيحلها من عقل الشعر ويسبكها في كلامه المنثور فإن الشعر هو المادة الثالثة للكتابة بعد القرآن الكريم والأخبار النبوية على قائلها أفضل الصلاة والسلام وخصوصاً أشعار العرب فإنها ديوان أدبهم ومستودع حكمهم وأنفس علومهم في الجاهلية به يفتخرون وإليه يحتكمون. فإذا أكثر من حفظ الشعر وفهم معانيه غزرت لديه المواد وترادفت عليه المعاني وتواردت على فكره فيسهل عليه حينئذ حلها ووضعها في مكانها اللائق بها بحسب مقتضيات الكتابة. قال صاحب الريحان والريعان: وهو شأن حذاق الكتاب في زماننا وفيه من الجمال فنون: منها أنه يدل على حفالة أدب المجيد واتساع الحفظ والتيسير والتأتي لسبك اللفظ. ومنها أنه ليس يشهر منها إلا النادر للغاية في الحسن فهي إذا حلت يحاورها المنشئ بما يناسب حسنها في البراعة وهذا كثير في هذه الصناعة. قال في المثل السائر: وإنما جعل المنظوم مادة للمنشور بخلاف العكس لأن الأشعار أكثر والمعاني فيها أغزر قال: وسبب ذلك أن العرب الذين هم أهل الفصاحة كان جل كلامهم شعراً ولا يوجد الكلام المنثور في كلامهم إلا يسيراً ولو كثر فإنه لم ينقل عنهم بل المنقول عنهم الشعر فأودعوا أشعارهم يسيراً ولو كثر فإنه لم ينقل عنهم بل المنقول عنهم الشعر فأودعوا أشعارهم كل المعاني كما قال الله تعالى: ثم جاء الطراز الأول من المخضرمين فلم يكن لهم إلا الشعر. ثم استمر الحال على ذلك فكان الشعر هو الأكثر والكلام المنثور بالنسبة إليه قطرة من بحر فلذلك صارت المعاني كلها مودعة في الأشعار. قال في حسن التوسل: والحل باب متسع على المجيد قال صاحب الريحان والريعان: وأول من فك رقاب الشعر وسرح مقيده إلى النثر عبد الحميد الأكبر: كاتب بني أمية إلى انقضاء خلافتهم. قال: وربما رامه غير المطبوع المتصرف فعقده وأفسده كما قال القائل: وبعضهم يحل فيعقد. قال: وكيفية الحل أن يتوخى هذا البيت المنظوم وحل فرائده من سلكه ثم ترتيب تلك الفرائد وما شابهها ترتيب متمكن لم يحظره الوزن ولا اضطرته القافية ويبرزها في أحسن سلك وأجمل قالب وأصح سبك ويكملها بما يناسبها من أنواع البديع إذا أمكن ذلك من غير كلفة ويتخير لها القرائن. وإذا تم معه المعنى المحلول في قرينة واحدة فيفرض له من حاصل فكره أو من ذخيرة حفظه ما يناسبه. وله أن ينقل المعنى إذا لم يفسده إلى ما شاء فإن كان نسيباً وتأتى له أن يجعله مديحاً فليفعل وكذلك غيره من الأنواع. وإذا أراد الحل بالمعنى فلتكن ألفاظه مناسبة لألفاظ البيت المحلول غير قاصرة عنها فمتى قصرت ولو بلفظة واحدة فسد ذلك الحل وعد معيباً. وإذا حل اللفظ فلا يتصرف بتقديم وتأخير ولا تبديل إلا مع مراعاة تدبير الفصاحة واجتناب ما ينقص المعنى أو يحط رتبته. قال: وهذا الباب لا تنحصر المقاصد فيه ولا حجر على المتصرف فيه. ثم حل الأبيات الشعرية واستعمالها في النثر على ثلاثة أضرب. الضرب الأول أن يأخذ الناثر البيت من الشعر فينثره بلفظه وهو أدنى مراتب الحل قال في المثل السائر: وهو عيب فاحش إذا لم يزد في نثره على أنه أزال رونق الوزن وطلاوة النظم لا غير. قال ومثله كمن أخذ عقداً قد أتقن نظمه وأحسن تأليفه فأوهاه وبدده وكان يقوم عذره في ذلك لو نقله عن كونه عقداً إلى صورة أخرى مثله أو أحسن منه. وأيضاً فإنه إذا نثر الشعر بلفظه كان صاحبه مشهور السرقة فيقال هذا شعر فلان بعينه لكون ألفاظه باقية لم يتغير منها شيء. وبالجملة فحل الشعر بلفظه لا يخرج عن حالين: الحال الأول: أن يكون الشعر مما يمكن حله بتقديم بعض ألفاظه وتأخير بعضها وله في حله طريقان: الطريق الأول: أن يحله بالتقديم والتأخير من غير زيادة في لفظه: كما ذكر صاح بالصناعتين عن بعض الكتاب أنه حل قول البحتري: أطل جفوة الدنيا وتهوين شأنها فما الغافل المغرور فيها بعاقل يرجي الخلود معشر ضل سعيهم ودون الذي يرجون غول الغوائل إذا ما حريز القوم بات وماله من الله واق فهو بادي المقاتل فقال في نثرها: أطل تهونين شأن الدنيا وجفوتها فما المغرور الغافل فيها بعاقل. ويرجو معشر ضل سعيهم الخلود وغول الغوائل دون ما يرجون. وإذا بات حريز القوم وماله من الله واق فهو بادي المقاتل. فلم يزد في ألفاظها شيئاً. الطريق الثاني: أن يحله بزيادة على لفظه كما حكى الجاحظ عن قليب المعتزلي أنه سمع منشداً ينشد للعتبي: أفلت بطالته وراجعه حلم وأعقبه الهوى ندما ألقى عليه الدهر كلكله وأعاره الإقتار والعدما فإذا ألم به أخو ثقة غض الجفون ومجمج الكلما فنثرها فقال يستعطف بعض الملوك على رجل من أهله: جعلني الله فداك ليس هو اليوم كما كان إنه وحياتك أفلت بطالته إي والله وراجعه حلمه وأعقبه وحقك الهوى ندماً. أحنى الدهر عليه والله بكلكله فهو اليوم إذا رأى أخا ثقة غض بصره ومجمج كلامه. فزاد في نثره ألفاظاً على ألفاظ الشعر. ونحو ذلك ما حكاه ضياء الدين بن الأثير عن بعض العراقيين أنه نثر قول بعض شعراء الحماسة: وألد ذي حنق علي كأنما تغلي عداوة صدره في مرجل أرجيته عني فأبصر قصده وكويته فوق النواظر من عل فقال في نثره: فكم لقي ألد ذا حنق كأنه ينظر إلى الكواكب من عل وتغلي عداوة صدره في مرجل فكواه فوق ناظريه وأكبه لفمه ويديه. الحال الثاني: أن يكون الشعر مما لا يمكن حله بتقديم بعض ألفاظه وتأخير بعضها فيحتاج في نثره إلى الزيادة فيه والنقص منه وتغيير بعض ألفاظه حتى يستقيم كقول الشاعر: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم فإن المصراع الثاني من البيت لا يمكن حله بالتقديم والتأخير لأنك تقول في المصراع الأول: فؤاد الفتى نصف ولسانه نصف ولا يمكن ذلك في المصراع الثاني حتى تزيد فيه أو تنقص منه فتقول مثلاً: فؤاد الفتى نصف ولسانه نصف على ما تقدم. ثم تقول وصورته من اللحم والدم فضلة لا غناء بها دونهما ولا معول عليها إلا معهما. قال في الصناعتين: وزيادة الألفاظ التي تحصل فيه ليست بضائرة لأن بسط الألفاظ في أنواع المنثور شائع ألا ترى أنها تحتاج إلى الازدواج ومن الازدواج ما يكون بتكرير كلمتين لهما معنى واجد وليس ذلك بقبيح إلا إذا اتفق لفظاهما إلا أن أكثر ما يحسن فيه إيراد المعنى على غاية ما يمكن من الإيجاز ومعنى قوله فلم يبق إلا صورة اللحم والدم داخل في قوله لسان الفتى نصف ونصف فؤاده. والمصراع الثاني تذييل للمصراع الأول. قال: فإذا أردت أن تحله حلاً ألا يا بان الذين فنوا وبادوا أما والله ما ذهبوا لتبقى فإن المصراع الأول يمكن حله بأن تقول: ألا يا ابن الذين بادوا وفنوا فيكون مستقيماً. أما المصراع الثاني فإنه إن قدم فيه أو أخر بأن قيل: ما ذهبوا لتبقى أما والله فإنه لا يستقيم فتحتاج في نثره إلى تغيير وزيادة فتقول: ألا يا ابن الذين ماتوا ومضوا وظعنوا ونأوا أما والله ما ظعنوا لتقيم و لا راموا لتريم ولا موتوا لتحيا ولا فنوا لتبقى. قال في الصناعتين: وفي هذه الألفاظ طول وليس بضائر على ما تقدم. قال: وإن أردت اختصاره قلت أما والله إن الموت لم يصبك في أبيك إلا ليصيبك فيك. الضرب الثاني وهو أعلى من الضرب الأول أن ينثر المنظوم ببعض ألفاظ ويغرم عن البعض ألفاظاً أخر. ويحسن ذلك في حالين الحال الأول: أن يكون في الشعر ألفاظ لا يقوم غيرها من الألفاظ مقامها بأن تكون مثلاً سائراً أو جارية مجرى المثل: كقول بعض شعراء الحماسة: لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا فإن لفظ بني اللقيطة لا يقوم غيره من الألفاظ مقامه لكونه علماً على قوم مخصوصين فيحتاج الناثر أن يبقيه بلفظه كما فعل ضياء الدين بن الأثير في قوله في نثر البيت المذكرو: لست ممن تستبيح إبله بنو اللقيطة ولا الذي إذا هم بأمر كانت الآمال إليه وسيطة ولكني أحمي الهمل وأفوت الأمل وأقول سبق السيف العذل. وكذلك كل ما جرى هذا المجرى ونحوه. الحال الثاني: أن يكون في البيت لفظ رائق قد أخذ من الفصاحة بزمامها وأحاط من البلاغة بجوانبها فيبقيه على حاله ويقرنه بلفظ يماثله ويوازنه قال في المثل السائر: وهناك تظهر الصنعة في المماثلة والمشاكلة ومؤاخاة الألفاظ الباقية بالألفاظ المرتجلة فإنه إذا أخذ لفظاً لشاعر مجيد قد نقحه وصححه فقرنه بما لا يلائمه كان كمن جمع بين لؤلؤة وحصاة ولا خفاء بما في ذلك من الانتصاب للقدح والاستهداف للطعن. قال: وهو عندي أصعب منالاً من نثر الشعر بغير لفظه لأنه يسلك مضيقاً لما فيه من التعرض لمماثلة ما هو في غاية الحسن والجودة. بخلاف نثر الشعر بغير لفظه فإن ناثره يتصرف فيه على حسب ما يراه ولا يكون مقيداً فيه بمثال يضطر إلى مؤاخاته ومثل لذلك بقول أبي تمام في وصف قصيدة له: حذاء تملأ كل أذن حكمة وبلاغة وتدر كل وريد ثم قال: فقوله تملأ كل أذن حكمة من الكلام الحسن وهو أحسن ما في البيت وأشهر فلو قال قائل لمن هذا قيل وهل يخفى القمر وإذا عرف الكلام صارت المعرفة له علامة ولم يخش عليه سرقة إذ لو سرق لدلت عليه الوسامة ومن خصائص صفاته أنه يملأ كل أذن حكمة ويجعل فصاحة كل لسان عجمة. فبقي لفظ تملأ كل أذن حكمة وأتى معها بما يناسبها من الألفاظ الحسنة الرائقة. ونحو ذلك ما ذكره الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي: أنه يؤاخي القرينة المحلولة بمثلها من عنده كما فعل هو في تقليد من التقاليد فقال: فكم مل ضوء الصبح مما يغيره ثم قال: وظلام النقع مما يثيره. وقال أيضاً: وفل حديد الهند مما يلاطمه ثم قال: والأجل مما يسابقه إلى قبض النفوس ويزاحمه. والقرينتان الأولتان نصفا بيتين للمتنبي فأضاف إلى كل قرينة ما يناسبها. قال وهذا من أكثر ما يستعمل في الكتابة. الضرب الثالث وهو أعلى من الضربين الأولين أن يأخذ المعنى فيكسوه ألفاظاً من عنده ويصوغه بألفاظ غير ألفاظه قال في المثل السائر: وثم يتبين حذق الصائغ في صياغته فإن استطاع الزيادة على المعنى فتلك الدرجة العالية وإلا أحسن التصرف وأتقن التأليف ليكون أولى بذلك المعنى من صاحبه الأول. ولتعلم أن الأبيات الشعرية في حلها بالمعنى لها حالان: الحال الأول: أن يكون البيت الشعر مما يتسع المجال لناثره في نثره فيورده بضروب من العبارات. قال ابن الأثير: وذلك عندي شبيه بالمسائل السيالة في الحساب التي يجاب عنها بعدة من الأجوبة. فمن ذلك قول أبي الطيب المتنبي: لا تعذل المشتاق في أشواقه حتى تكون حشاك في أحشائه فهذا البيت يتصرف في نثره في وجوه من المعاني. وقد نثر ابن الأثير هذا البيت فقال: لا تعذل المحب فيما يهواه حتى تطوي القلب على ما طواه. ونثره على وجه آخر فقال: إذا اختلفت العينان في النظر فالعدل ضرب من الهذر. وكذلك قول المتنبي أيضاً: إن القتيل مضرجاً بدموعه مثل القتيل مضرجاً بدمائه نثره ابن الأثير فقال: القتيل بسيف العيون كالقتيل بسيف المنون غير أن ذلك لا يجرد من غمده ولا يقاد صاحبه بعمده. فزاد على المعنى الذي تضمنه البيت عدم القود بالعمد. ونثره على وجه آخر فقال: دم المحب ودم القتيل متفقان في التشبيه والتمثيل ولا تجد بينهما بوناً سوى أنهما يختلفان لوناً. قال وهذا أحسن من الأول. وعلى هذا النهج يجري قول ابن الرومي في وصف الحديث: وحديثها السحر الحلال لو أنه لم يجن قتل المسلم المتحرز نثره الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي في وصف السيوف فقال: وكفى السيوف فخراً أنها للجنة ظلال والى النصر مآل وإذا كان من بيان الحديث سحر فإن بيان حديثها عمن كلمته هو السح الحلال. ثم نقله إلى وصف الأسنة فقال: حسب ألسنة الأسنة شرفاً أن كشف خبايا القلوب يذم إلا منها وأن بث أسرار الضمائر تكره روايته إلا عنها فمكرر حديثها في ذلك لا يفضي إلى ملال وإذا لم يكن حسن حديثها الذي يسحر الالباب مما يحل فليس في الحديث سحر حلال. ثم نقله إلى وصف البلاغة فقال: البلاغة تسحر الالباب حتى تحيل العرض جوهراً وتحيل الهواء المدرك بالسمع لانسجامه وعذوبته في الذوق نهراً لكنه سحر لم يجن قتل المسلم المتحرز فيتأول في حله وإذا كان في الحديث ما هو عقلة للمستوفز فهذا أنشوطة نشاط البليغ وحل تقال عقله. ونقله إلى وصف الكتابة فقال: خطه شرك العقول وفتنة تشغل المطمئن بملاحة المرئي المكتوب عن فصاحة المسموع المقول ولو لم يكن البيان سحراً لما تجسدت منه في طرسه هذه الدرر ولو لم يكن بعض السحر حلالاً لما انجلى ظلام النفس عما يهتدى به من هذه الأوضاح والغرر. الحال الثاني: أن يكون البيت الشعر مما يضيق المجال فيه فيعسر على الناثر تبديل ألفاظه: وذلك قليل بالنسبة إلى ما يتسع في حله المجال. قال في المثل السائر: وسببه أن المعنى ينحصر في مقصد من المقاصد حتى لا يكاد يأتي إلا فذاً. فمن ذلك قول أبي تمام الطائي من قصيدة: فإن أبا تمام قصد المؤاخاة في ذكر لوني الثياب بين الأحمر والأخضر وجاء ذلك واقعاً على المعنى الذي أراده: من لون ثياب القتلى ثياب الجنة فإن ثياب القتلى حمر وثياب الجنة خضر. قال ابن الأثير: فإذا فك نظم هذا البيت وأريد صوغه بغير لفظه لمن يمكن فيجب على الناثر أن يحسن الصنعة في فك نظامه لأنه يتصدى لنثره بألفاظه فإن كان عنده قوة تصرف وبسطة عبارة فإنه يأتي به حسناً رائقاً. وقد نثر هذا البيت فقال: لم تكسه المنايا نسج شفارها حتى كسته الجنة وقد نثر هذا البيت فقال: لم تكسه المنايا نسج شفارها حتى كسته الجنة نسج شعارها: فبدل أحمر ثوبه بأخضره وكأس جمامه بكأس كوثره. قال: وهذا من الحسن على غاية يكون كمجد حسودها من جملة شهودها. ومن ذلك قول أبي الطيب: وكان بها مثل الجنون فأصبحت ونم جثث القتلى عليها تمائم فإن أبا الطيب بني بيته على واقعة مخصوصة. وذلك أن حصناً من حصون سيف الدولة قصده الروم وانتزعوه وخربوه فنهد سيف الدولة إليه واسترجعه وجدد بناءهن وهزم الروم ونصب جملة من جثث القتلى على السور فنظم أبو الطيب في هذا قصيداً أوله: على قدر أهل العزم تأتي العزائم ولما انتهى إلى ذكر الحصن جاء بهذا البيت في جملة أبيات فشرح صورة الحال في ارتجاع الحصن بالقتال وتعليق القتلى عليه وأبرز ذلك في معنى التمثيل بالجنون والتمائم. وهذا لا يمكن تبديل لفظه فيجب على الناثر حسن الصنعة في حله ونثره. وقد نثره ابن الأثير أيضاً فقال: سرى إلى حصن كذا مستعيداً منه سبية نزعها العدو اختلاساً وأخذها مخادعة لا افتراساً فما نزلها حتى استقادها ولا نازلها حتى استعادها فكأنما كان بها جنون فبعث لها من عزائمه عزائم وعلق عليها من رؤوس القتلى تمائم ثم قال: وفي هذا من الحسن مالا خفاء فيه فمن شاء أن ينثر شعراً فلينثر هكذا وإلا فليترك. ثم نقله إلى معنى آخر وأبرزه في صورة أخرى فأضاف إليه البيت الذي قبله من القصيدة فصار على هذه الصورة: بناها فأعلى والقنا تقرع القنا وموج المنايا حولها متلاطم وكان بها مثل الجنون فأصبحت ومن جثث القتلى عليها تمائم ثم نثرهما فقال: بناها والأسنة في بنائها متخاصمة وأمواج المنايا فوق أيدي البانين متلاطمة وما أجلت الحرب عنها حتى زلزلت أقطارها بركض الجياد وأصيبت بمثل الجنون فعلقت عليا تمائم من الرؤوس والأجساد. ولا شك أن الحرب تعرد عمن عز جانبه وتقول ألا هكذا فليكسب المجد كاسبه. قال وهذا أحسن من الأول وأتم معنى. ثم تصرف فيه بزيادة على هذا المعنى فقال: بناها ودون ذاك البناء شوك الأسل وطوفان المنايا الذي لا يقال وكأنما أصيبت بجنون فعلقت القتلى عليها مكان التمائم أو شينت بعطل فعلقت مكان الأطواق. قال وهذا الفصل فيه زيادة على الفصل الذي قبله. قلت: وكما ينبغي الإكثار من حفظ الأشعار على ما تقدم ليوردها في خلال كلامه استشهاداً وتضميناً أو يحلها ويقتبس معانيها في نثره على ما تقدم بيانه كذلك ينبغي له معرفة المشاهير من الشعراء الطائري السمعة: من شعراء الجاهلية كامرئ القيس بن حجر والنابغة الذبياني وطرفة بن العبد وأوس بن حجر وزهير بن أبي سلمى والأفوه الأودي والمتلمس والأعشى وعلقمة بن عبدة وعمرو بن كلثوم والمرقش والنمر بن تولب ومهلهل وطفيل الغنوي وعروة بن الورد وقيس بن الخطيم والشماخ بن ضرار وعنترة والسموأل بن عاديا ومن جرى مجراهم. ومن المخضرمين وهم الذي أدركوا الجاهلية والإسلام جميعاً: كحسان بن ثابت رضي الله عنه ولبيد بن أبي ربيعة وكعب بن زهير وزيد الخيل الطائي والنابغة الجعدي وأمية بن أبي الصلت والحطيئة وعمرو بن معدي كرب والزبرقان بن بدر التميمي والعباس بن مرداس السلمي والخنساء بنت عمرو بن الشريد ومن في معناهم. ومن المولدين وهم الذين ولدوا من العرب في الإسلام: كالفرزدق وجرير والأخطل والقطامي والكميت بن زيد الأسدي والمساور بن هند وعدي بن الرقاع وكثر عزة وعمر بن أبي ربيعة والراعي وابن مقبل وابن مفرغ وليلى الأخيلية ومن انخرط في سلكهم. ومن المحدثين وهم الذين أتوا بعد المولدين: كإبراهيم بن هرمة وابن أذينة وأبي نواس وأبي العتاهية طفيل الكناني وسلم الخاسر وابن ميادة وصالح بن عبد القدوس وأبي عيينة والعباس بن الأحنف والعتابي وأشجع السلمي والعكوك وابن أبي زرعة الدمشقي وأبي الشيصن والحمدوني والعتبي ودعبل الخزاعي وإسحاق بن إبراهيم الموصلي وإبراهيم بن إسحاق الموصلي وأبي علي البصير وأبي تمام الطائي وأبي عبادة البحتري وأبي الطيب المتنبي وابن بسام والسري الموصلي وأبي الفتح كشاجم وأبي الفتح العبسي وأبي الفرج الببغا وابن الساعاتي وابن قلاقس والوأواء الدمشقي والعفيف التلمساني وابنه وابن سنا الملك وابن شمس الخلافة وابن النبيه والصفي الحلي ونحوهم. ومعرفة الفرسان منهم: كامرئ القيس وخفاف بن ندبة والزبرقان بن بدر وعنترة وعمرو بن معدي كرب ودريد بن الصمة. ومن كان منهم راجلاً يسعى على رجليه: كسليك بن السلكة وابن براقة وتأبط شراً والشنفري وغيرهم. ومن تقدم منهم في نوع من الشعر كمعرفة طفيل الغنوي بوصف الخيل وأمية بن أبي الصلت في أمر الآخرة وذكر الحرب وعمر بن أبي ربيعة في وصف النساء وعتيبة بن مرادس بمراكب الإبل وكثير في الأمثال والفرزدق في الأخبار وجرير في المعاني. ومعرفة من هو أكثرهم حفظاً: الأغلب الشاعر: قيل إنه كان يحفظ أربع عشرة ألف أرجوزة ومعرفة أي القبائل كانت الشعراء فيها أكثر: كهذيل فقد قيل إنه كان فيها أربعون شاعراً مفلقاً كلهم يعدو على رجليه ليس فيهم فارس وأي قبيلة كان الشعر فيها أقل: كشيبان وكلب فقد قيل إنه ليس في الدنيا قبيلة أقل شعراء منهما وإنه ليس لكلب في الجاهلية شاعر قديم على أنها مثل شيبان أربع مرات. وقد ذكر ابن رشيق في عمدته عن عبد اله بن سلام الجمحي وغيره: أن الشعر كان في الجاهلية في ربيعة فكان منهم مهلهل بن ربيعة وهو خال امرئ القيس بن حجر ويقال إنه أول من قصد القصائد والمرقشان الأكبر والأصغر وطرفة بن العبد وعمرو بن قميئة والحارث بن حلزة والمتلمس والأعشى والمسيب بن علس وغيرهم ثم تحول الشعر إلى قيس فكان منهم النابغتان الذبياني والجعدي وزهير بن أبي سلمى وابنه كعب ولبيد والحطيئة والشماخ. ثم استقر الشعر في تميم فكان منهم أوس بن حجر ولم يتقدمه أحد حتى كان النابغة وزهير فأخملاه. قلت: والمراد أن الشعر غلب في هذه القبائل وظهر فيها وكان فيها الشعراء المجيدون وإلا فالشعر موجود في قبائل العرب قبل ذلك: كحمير وكهلان من اليمن بل في عاد وثمود على ما تشهد به كتب السير والأخبار. فإذا عرف الكاتب ذلك استعان به في المساواة بمن شاء منهم في التقريظات والتفضيل عليه كما كتبت في تقريظ شاعر: فامرؤ القيس يغرق في مقياس معانيه والنابغة الذبياني يقصر عن أن يبلغ مدى شأوه أو يدانيه وزهير يقتطف زهرات البلاغة من أفانينه وأوس بن حجر ينسج على منواله ويأتم بقوانينه وطفيل الغنوي يتطفل على موائد شعره وطرفة بن العبد يقصر عنه في شيوع ذكره والأعشى يعشو إلى ضوء ناره وعمرو بن كلثوم يسعى إلى بابه ويقف بفناء داره وكثير في أمثاله لا يعد من أمثاله وجرير في مفاخره يتمسك من الفخار بأذياله والفرزدق في أوصافه يقلبه ما بين يمينه وشماله فلو رآه عبد الملك بن مروان لاختاره على الأخطل أو اجتمع مع أبي نواس لدى الأمين لقال هذه هو المقدم الأفضل أو أدركه أبو تمام لاعترف له بالتمام وأو بصر به أبو عبادة لقال أنا له عبد وغلام أو عاصره المتنبي لاعترف بفضله أو ابن الساعاتي لقال لا يأتي الزمان دون قيام الساعة بمثله. ونحو ذلك مما يجري هذا المجرى. وكذلك ينبغي أن يعرف مصطلح أهل العروض الذي هو ميزان الشعر مثل الوتد والسبب والفاصلة والعروض والضرب وأسماء البحور: من الطويل والمديد والبسيط وأخواتها وألقاب الزحاف: كالخبن والخبل والقبض وغيرها: ليدخلها تضاعيف كلامه عند احتياجه إلى ذلك كما قال صاحبنا الشيخ زين الدين شعبان الآثاري في أول ألفيته في العروض: الحمد لله المليك الغافر ذي الطول والفضل المديد الوافر سبحانه ماذا يقول البارع في كامل ليس له مضارع ورزقه في عدله بسيط وعلمه بخلقه محيط وما ينخرط في هذا السلك من الكلام المنثور أيضاً. النوع الحادي عشر الإكثار من حفظ الأمثال وفيه مقصدان المقصد الأول في وجه احتياج الكاتب إلى ذلك اعلم أن الكاتب يحتاج إلى النظر في كتب الأمثال الواردة عن العرب نثراً ونظماً والنظر في الكتب المصنفة في ذلك: كأمثال الميداني والمفضل ابن سلمة الضبي وحمزة الأصبهاني وغيرهم. وكذلك أمثال المولدين الواردة في أشعارهم: كالأمثال الواردة في شعر جرير والفرزدق ونحوهما إلى غير ذلك من الأمثال الواردة نثراً ونظماً والنظر في أمثال المحدثين الواردة في أشعارهم: كأبي العتاهية وأبي تمام والمتنبي فحكم ما ورد من الأمثال في شعر المولدين والمحدثين حكم أمثال العرب الشعرية أما في شعر المولدين فلجريهم على أسلوب العرب وركوب جادتهم وأما المحدثين فللطافة مأخذهم واستطراف ما يأتون به مما يجري مجرى النثر والنظم: من الأمثال الموضوعة على ألسنة الحيوان عن العرب وغيرهم فيستشهد به في موضعه ويورد في مكانه عارفاً بأصل ذلك وما بني عليه و ذلك أن المثل له مقدمات وأسباب قد عرفت و صارت مشهورة بين الناس معلومة عندهم وهذه الألفاظ الواردة في المثل دالة عليها معبرة عن المراد بها بأخصر لفظ وأوجزه ولولا تلك المقمات المعلومة والأسباب المعروفة لما فيهم من هذه الألفاظ القلائل تلك الوقائع المطولات وأما الأمثال الواردة نثراً فإنها كلمات مختصرة تورد للدلالة على أمور كلية مبسوطة كما تقدمت الإشارة إليه وليس في كلامهم أوجز منها. ولما كانت الأمثال كالرموز والإشارة التي يلوح بها على المعاني تلويحاً صارت من أوجز الكلام وأكثره اختصاراً. وحيث كانت بهذه المكانة لا ينبغي الإخلال بمعرفتها قال صاحب العقد: والأمثال هي وشي الكلام وجوهر اللفظ وحلي المعاني والتي تخيرتها العرب وقمتها العجم ونطق بها في كل زمان على كل لسان فهي أبقى من الشعر وأشرف من الخطابة لم يسر شيء كسيرها ولا عم عمومها حتى قالوا: أسير من مثل قال الشاعر: ما أنت إلا مثل سائر يعرفه الجاهل والخابر وقد ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه فقال: وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمثال فقال: " ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً وعلى جنبي الصراط أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى رأس الصراط داع يقول ادخلوا الصراط ولا تعرجوا: فالصراط الإسلام والستور حدود الله والأبواب محارم الله والداعي القرآن " إلى غير ذلك من الأمثال التي ضربها صلى الله عليه وسلم. ومحل الكلام على أمثال القرآن وأمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقدم من الكلام على القرآن الكريم ثم هي على ضربين: قريب الفهم بظهور معناه وكثرة دورانه بين الناس وبعيد الفهم لخفائه وقلة دورانه بين الناس. فالقريب من الفهم الكثير الدوران على الألسنة مثل قولهم: " عند الصباح يحمد القوم السرى " وهو مثل يضرب للترغيب في السير في الليل والحث عليه وأول من أرسله مثلاً خالد بن الوليد رضي الله عنه قاله في صبح ليلة قطع فيها مفازة كانت في طريقه من العراق إلى الشام وقولهم " ساء سمعاً فأساء إجابة ". وأول من قال ذلك سهيل بن عمرو وكان تزوج صفية بنت أبي جهل فولدت له ابنه أنساً فرآه الأخنس بن شريق الثقفي معه فقال من هذا فقال سهيل ابني. فقال الأخنس حياك الله يا بني! أين أمك فقال: لا والله ما أمي ثم انطلقت إلى بيت أم حنظلة تطحن دقيقاً فقال أبوه ساء سمعاً فأساء إجابة فلما رجعا قال أبوه فضحني ابنك اليوم قال كذا وكذا فقالت إنما ابني صبي وأنت لا تحبه. فقال " أشبه امرؤ بعض بزه " فأرسلها مثلاً. والبعيد من الفهم مثل قولهم " إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر ". وهو مثل يضرب لمن ينكر الأمر الظاهر عناداً. والأصل في ذلك كما ذكره المفضل بن سلمة الضبي أن بني ثعلبة بن سعد بن ضبة في الجاهلية تراهنوا على الشمس فقالت طائفة: تطلع الشمس والقمر يرى وقالت طائفة: يغيب القمر قبل أن تطلع الشمس فتراضوا برجل جعلوه بينهم حكماً فقال واحد منهم: إن قومي يبغون علي فقال الحكم: إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر فجرت مثلاً. ومن المعلوم أن قول القائل إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر إذا أخذ على حقيقته من غير نظر إلى القرائن المنوطة به والأسباب التي قيل من أجلها لا يعطي من المعنى ما قد أعطاه المثل بل ما كان يفهم من هذا القول معنى يفيد لأن البغي هو الظلم والقمر ليس من شأنه أن يظلم أحداً فكان يصير معنى المثل: إن كان يظلمك قومك لا يظلمك القمر. وهو كلام مختل المعنى ليس بمستقيم. وقد أكثر الناس في تصنيف كتب الأمثال فمن ذلك الأمثال لأبي عبيد وهو مرتب على ترتيب الوقائع التي تقع فيها الأمثال. ومن ذلك أمثال الميداني وهي مرتبة على حروف المعجم وفي آخرها جملة من أيام حروب العرب إلى غير ذلك من كتب الأمثال المصنفة في هذا الباب: كأمثال الضبي والقمي وغيرها. وأما الأمثال الواردة نظماً فهي كلمات استحسنت في الشعر وطابقت وقائع عامة جارية بني الناس فتداولها الناس وأجروها مجرى الأمثال النثرية. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بقول طرفة: ويأتيك بالأخبار من لم تزود وهو نصف بيت مجموعه: ويروى أنه صلى الله عليه وسلم كان يخرجه عن الوزن ويحيله عن طريق الشعر فكان يقول: " وياتيك من لم تزود بالأخبار " فراراً من قول الشعر المنزه عنه مقامه العي وشرفه الرفيع لكن ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: " أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد ": ألا كل شيء ما خلا الله باطل والمحرم عليه صلى الله عليه وسلم إنما هو نظم الشعر دون إنشاده وسماعه. وقد بسطت القول على ذلك في كتابي المسمى بالغيوث الهوامع في شرح جامع المختصرات ومختصر الجوامع. في الفقه فراجعه هناك ويروى أن عمر رضي الله عنه تمثل بقول النابغة: ولست بمستبق أخاً لا تلمه على شعث أي الرجال المهذب ثم قال: لمن هذا فقيل له للنابغة فقال: ذاك أشعر شعرائكم والمثل السائر في قوله: أي الرجال المهذب وأمثال ذلك مما تمثل به الصحابة رضوان الله عليهم كثير ولذلك وقع في أمثال المحدثين الواردة في أشعارهم ما يستظرف ويستحلى كقول القاضي الأرجاني: تأمل منه تحت الصدغ خالاً لتعلم كم خبايا في الزوايا يشير بذلك إلى المثل الجاري على ألسنة الناس في قولهم " في الزوايا خبايا " وهو من الأمثلة المستفيضة على ألسنة العامة الشائعة بينهم وقول ابن عبد ربه: صل من هويت وإن أبدي معاتبة فأطيب العيش وصل بين إلفين! واقطع حبائل خدن لا تلائمه فربما ضاقت الدنيا بإثنين وقول الآخر: وعاد من أهواه بعد القلى شقيق روح بين جسمين وأصبح الداخل ما بيننا كساقط بين فراشين قد ألبس البغضاء من ذا وذا لا يصلح الغمد لسيفين ما بال من ليست له حاجة يكون أنفاً بين عينين قال الأصمعي: ولم أجد في شعر شاعر بيتاً أوله مثل وآخره مثل إلا ثلاثة أبيات: بيت الحطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس وبيتا امرئ القيس: وأفلتهن علباء جريضاً ولو أدركنه صفر الوطاب وقاهم جدهم ببني أبيهم وبالأشقين ما كان العقاب قال صاحب العقد: ومثل هذا كثير في القديم والحديث ولا أدري كيف أغفل القديم منه البيت المتقدم وهو من أشرف الأبيات وأعظمها باباً. وأما الأمثال الموضوعة على ألسنة الحيوانات فكما روي أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حين رأى خلاف أصحابه وتخاذلهم تمثل بقولهم " إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض " يعني إنما خذلت يوم خذل عثمان وحكاية هذا المثل أنهم قالوا: اصطحب أسد وثور أحمر وثور أبيض وثور أسود في أجمة فقال الأسد للأحمر والأسود: هذا الأبيض يفضحنا بلونه ويطمع فينا من يقصدنا! فلو تركتماني آكله أمنا فضيحة لونه فأذنا له في ذلك فأكله ثم قال للأحمر: هذا الأسود يخالف لوني ولونك ولو بقيت أنا وأنت ظنك من يراك أسداً مثلي فدعني آكله فسكت عنه فأكله ثم قال للثور الأحمر: لم يبق إلا أنا وأنت وأريد أن آكلك! فقال: إن كنت فاعلاً ولا بد فدعني أصعد تلك الهضبة وأصيح ثلاثة أصوات فقال: افعل ما تريد فصعد وصاح ثلاثة أصوات: " ألا إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض " فجرت مثلاً. ويحكى أن عبد الملك بن مروان حج وقدم المدينة فقال على المنبر: يا أهل المدينة إنكم قتل عثمان بين أظهركم فنن لا نحبكم! وأرسلنا مسلمة ابن عقبة فقتلكم في وقعة الحرة فأنتم لا تحبوننا فمثلنا ومثلكم كما قال النابغة: كما لقيت ذات الصفا من حليفها وكانت تريه المال غبا وظاهره أكب على فأس يحد غرابها مذكرة من المعاول باتره فلما وقاها الله ضربة فأسه ولله عين لا تغمض ناظره فقال تعالي نجعل الله بيننا على ما لنا أو تنجزى لي آخره فقالت يمين الله أفعل إنني رأيتك سخرياً يمينك فاجره أبى لي قبر لا يزال مقابلي وضربة فأس فوق رأسي فاقره وهذه الحكاية مشهورة في الموضوعات على ألسن الحيوان وهي أن أخوين هبطا بغنمهما وادياً يرعيان فيه فخرجت حية من تحت الصفا وفي فمها دينار فألقته إليهما وأقامت كذلك أياماً فقال أحدهما لا بد من قتل هذه الحية وأخذ هذا الكنز! فنهاه أخوه فلم يقبل فخرجت فضربها بفأس في يده فشجها وشدت عليه فقتله فدفنه أخوه مقابلها فلما خرجت قال لها لك أن نتعاهد على المودة وعدم الأذية وتعطيني ذلك الدينار كل يوم فقالت: لا! قال ولم قالت لأنك كلما نظرت إلى قبر أخيك لا تصفو لي وكلما ذكرت الشجة التي في رأس لا أصفو لك.
فإذا أكثر صاحب هذه الصناعة من حفظ الأمثال السائغ استعمالها انقادت إليه معانيها وسيقت إليه ألفاظها في وقت الاحتياج إلى نظائرها من الوقائع والأحوال فأودعها في مكانها واستشهد بها في موضعها والطريق في استعمالها في النثر كما في حل الأشعار واستعمالها إلا أن الأمثال لا يجوز تبديل ألفاظها ولا تغيير أوضاعها: لأنها بذلك قد عرفت واشتهرت. فما استعمله أهل الصناعة من الأمثال المنثورة وأوردوه في كلامهم قول المقر الشهابي ابن فضل الله في التعريف في وصية أمير مكة المعظمة ولأنه أحق بني الزهراء بما أبقته له آباؤه وألقته إليه من حديث قصي جده الأقصى أبناؤه وهو أجدر من طهر هذا المسجد من أشياء تنزه أن يلحق به فحش عابها وشنعاء هو يعرف كيف يتتبعها " وأهل مكة أخبر بشعابها " فاستعمل المثل السائر في قوله وأهل مكة أخبر بشعابها وقد وقع هذا المثل في كلامه أحسن موقع وجاء على أجمل نظام: لأنه قد أتى به في مكانه اللائق به ومحله المخصوص بوصفه وقد نقله الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله فاستعمله في غير هذا المعنى فجاء منحطاً عن هذه الدرجة وقاصراً عن رتبتها فقال في وصية خطيب: ووصايا هذه الرتبة متشعبة وهو كأهل مكة أخبر بشعابها وأحوالها مترتبة وهو على كل حال أدرب وأدرى بها إلا أنه قد ظرف بذكر الجناس الاشتقاقي في قوله متشعبة مع قوله بشعابها. ومن ذلك قول الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي رحمه الله في خطبة تقليد بفتوة عن ملك: " ونشهد أن محمداً عبده ورسوله " الذي نور شريعته جلي وجاه شفاعته ملي وبسيفه وبه جاء النصر والشرف من انتمائنا إليه فلا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي. وهذا على ما هو شائع على الألسنة وأن ذلك قيل في يوم ضرب علي رضي الله عنه كافراً اسمه مرحب فشق البيضة على رأسه نصفين وتمادى السيف فيه وفي جواده فشقهما كذلك وخلص السف بينهما فغاص في الأرض شبرين إلا أن المعروف عند المحدثين وأصحاب السير أن ذا الفقار اسم سيف للنبي صلى الله عليه وسلم اصطفاه من خيبر لنفسه حين اصطفى صفية بنت حيى بن أخطب رضي الله عنها ولعله صلى الله عليه وسلم أعطاه علياً رضي الله عنه بعد ذلك. ومن ذلك ما ذكرته في المفاخرة بين السيف والقلم في الكلام على لسان القلم وهو: " أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب وكريمها المبجل وعالمها المهذب ". فالقرينة الأولى فيها مثلان وأول من قالهما الحباب بن المنذر الأنصاري يوم السقيفة حين اجتمع الأنصار إلى سعد بن عبادة يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم في سقيفة بني ساعدة وأرادوا تأميره فذهب إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح وقال الحباب بن المنذر: منا أمير ومنكم أمير إلى أن كان من كلامه هذان المثلان. والجذيل تصغير حذل واحد الأجذال وهي أصول الشجر العظام وكانت العرب إذا جربت الإبل نصبت لها جذلاً في باطن الوادي تحتك فيه فلذلك قال جذيلها المحكك أراد أنه يستشفى برأيه كما تستشفي الإبل بالحك في ذلك الجذل والعذق بفتح العين النخلة بحملها وكان من عادتهم أن النخلة الكريمة يبنى ولها بناء يمنعها من السقوط فذلك هو الترجيب أراد أنه كريم في قومه عزيز عليهم. وما ذكرته في المفاخرة بين السيف والقلم أيضاً على لسان السيف وهو: " فالشمس من شعاعي في خجل والليل من ضوئي في وجل وما أسرعت في طلب ثأر إلا قيل فات ما ذبح وسبق السيف العذل ". ففي القرينة الأخيرة مثلان أحدهما " فات ما ذبح " وهو منثل يضرب لمن طلب الشيء بعد فواته وأصله أن بعض الملوك رأى مع أعرابي بازياً فأعجبه فأرسل في طلبه قاصداً فأتى الأعرابي ولم يكن عنده ما يضيفه به فذبح البازي وطبخه وقدمه إليه غير عالم بقصده فلما فرغ من أكله ذكر للأعرابي أمر البازي وما كان من طلب الملك له فقال " فات ما ذبح " إنك أتيتني ولم يكن عندي ما أضيفك به فذبحت البازي وطبخته وهو الذي قدمته إليك. والمثل الثاني " سبق السيف العزل " وهو مثل لمن يلوم على فعل شيء بعد وقوعه وفوات أمره. ومما حل من الأمثال الواردة نظماً واستعمل في النثر قول القاضي شهاب الدين بن فضل الله في التعريف في وصية أمير مكة المعظمة أيضاً في الوصية على وفود الحجيج: وكل هؤلاء إنما يأتون في ذمام الله بيته الذي من دخله كان آمناً وإلى محل ابن بنت نبيه الذي يلزمه من طريق بر الضيف ما أخذ لهم وإن لم يكن ضامناً فليأخذ بمن أطاع من عصى وليردع كل مفسد ولا سيما العبيد فإن العبد لا يردعه إلا العصا. فقوله: فإن العبد لا يردعه إلا العصا يشير به إلى قول ابن دريد في مقصورته: واللوم للحر مقيم رادع والعبد لا يردعه إلا العصا وقد اشتهر النصف الثاني من هذا البيت حتى جرى مجرى المثل ولعه كان مثلا سائراً قبل أن ينظمه ابن دريد. ومنه قول الشيح جمال الدين بن نباتة رحمه الله من توقيع بنظر مدرسة بعد أن قدم أن أهلها رفعوا قصصهم في طلب ذلك الناظر: وكيف لا وهو نعم الناظر والإنسان وفي مصالح القول والعمل ذو اليدين واللسان وذو العزائم الذي تقيدت في حبه الرتب ومن وجد الإحسان. يريد البيت المشهور: ومن وجد الإحسان قيداً تقيداً وقد أتى فيه بالاكتفاء فزاد في كلامه حسناً وطلاوة. وأعلى منه وأوقع في النفوس قوله بعد ذلك في التوقيع المذكور فاقتضى علو الرأي أن يجاب في طلبه إليهم سؤال القوم وأن يتصل أمس الإقبال باليوم وأن تبلغ هذه الوظيفة أملها فيه بعد ما مضت عليها من الدهر ملاوه وهذه المدرسة لولا تداركه لكانت كما قال الخزاعي " مدارس آيات خلت من تلاوه ". ومن ذلك قول المولى علاء الدين بن غانم في قدمة باسم مظفر الدين غانم وقد صرع لغلغة وادعى بها للملك المؤيد صاحب حماه الحمد لله الذي ظفر المظفر بإصابة الواجب من الطير ووفر من السعادة حظ من أصاب ووافق الصواب فيمن انتمى إذ تشرف به وتميز على الغير وخفر من أسراه إلى من يحمد لديه صبح سراه إذ يصبحه من بشره وبره كل خير. أشار في القرينة الأخيرة إلى المثل السائر من قولهم " عند الصباح يحمد القوم السرى " وقد تقدم أن أول من قال ذلك خالد بن الوليد رضي الله عنه. وما استعمله أهل الصناعة من أمثال المحدثين نثراً قول الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله في وصف خطيب من جملة توقيع: ومن إذا قام فريداً عد بألف من فرائد الرجال تنظم وإذا أقبل في سواد طيلسانه قيل: جاء السواد الأعظم. فاستعمل المثل السائر في قولهم " السواد الأعظم " يريدون الجم الغفير وهو من أمثال المحدثين وحسن ذلك لمناسبة لبس الخطيب السواد على ما جرت به العادة وإن كان خلاف السنة: كما صرح به الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله من ومن ذلك ما ذكرته في المفاخرة بين السيف والقلم وهو: وأظهر كل منهما ما كان يخفيه فكتب وأملى وباح بما يكنه صدره والمؤمن لا يكون حبلى. فاستعملت المثل في قولهم " المؤمن لا يكون حبلى " وهو من أمثال المحدثين إلى غير ذلك مما يجري هذا المجرى. وقد تستعمل أمثال المحدثين في الشعر أيضاً فتجلو ويروق موقعها ويستظرف كما قال القاضي الأرجاني: تأمل منه تحت الصدغ خالاً لتعلم كم خبايا في الزوايا النوع الثاني عشر معرفة أنساب الأمم من العرب والعجم ويحتاج إليه الكاتب في المكاتبات: لأنه بصدد أن يكتب عن ملكه إلى أمير قبيلة من العرب أو ملك أمة من الأمم فما لم يكن عارفاً بأنسابها كان قاصراً فيما يكتبه من ذلك. ومن غريب ما وقع في ذلك أن ملك البرنو من ملوك السودان كتب كتاباً إلى الأبواب السلطانية بالديار المصرية في الدولة الظاهرية برقوق يذكر فيه أنه المجاورين لهم من عرب جذام قد أغاروا عليهم وسبوا جماعة من نسائهم وذراريهم وباعوهم بالديار المصرية وما حولها ثم قال: ونحن من ذرية سيف بن ذي يزن العربي القرشي فخلط القحطانية بالعدنانية لأن سيف بن ذي يزن من بقايا التبابعة من حمير من القحطانية وقريش من العدنانية وناهيك بذلك عيباً أن لو وقع من كاتب معتبر. ويشتمل الغرض منه على ثلاثة مقاصد: المقصد الأول معرفة عمود النسب النبوي من النبي صلى الله عليه وسلم إلى آدم من حيث إن سائر الأنساب تتعلق به وترجع في القرب والبعد إليه وها أنا أورده على ما أورده ابن إسحاق في السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وتبعه عليه ابن هشام في سيرته إذ كان عمدة في هذا الباب فأقول: هو محمد رسول الله بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب ابن لؤي بن غالب بن فهرن بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة ابن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أدد بن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام ابن تارح وهو آزر بن أرغو بن فالغ ابن عابر بن أرفحشذ بن سام بن نوح عليهم السلام ابن يرد بن مهليل بن قال النووي: والاتفاق على هذا النسب الشريف إلى عدنا وليس فيما بعده إلى آدم طريق صحيح وفيما بعد عدنان إلى إسماعيل عليه السلام خلاف كثير قال القضاعي في عيون المعارف في أحكام الخلائف: وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تجاوزوا معد بن عدنان كذب النسابون ". ثم قرأ " وقروناً بين ذلك كثيراً ولو شاء أن يعلمه لعلمه " قال: والصحيح أنه من قول ابن مسعود رضي الله عنه.
|